عبد الغني دياب يكتب.. «تتريك أفريقيا» قوة تركيا الناعمة تزحف جنوبا
أنقرة وظفت أفكارها التوسعية للتمدد في القارة السمراء
لا تتوقف آلة الدعاية السياسية التركية، عن صناعة الجدل وتسويق العثمانية الجديدة بثوبها الأردوغاني التوسعي، تلبس عباءة الدين مرة، وأخرى في زي الشرق أوسطي المنفتح، الذي يرغب في تقديم خدماته لجريانه، لكنها كالعادة ليست بالمجان. فمن إسطنبول تخرج دوما الرسائل الموجهة، والخطط المنمقة، وكثير منها يوجه للقارة السمراء مرة في زي المستنير الأوروبي وأخرى في زي الصديق الذي لا يطمع في ثروات الأفارقة، لكن ما في النفوس غير ذلك تماما، فأنقرةر تمتلك خطة توسعية قديمة تسعى لتطبيقها بكافة الأساليب والطرق.
اتخذت تركيا من القوة الناعمة وسيلة للتمدد لتحقيق أطماعها في المنطقة، والتي تفسرها الخرطية التي ظهرت للمرة الأولى في عام 2009، والتي نشرها الباحث الأمريكي جورج فريدمان في كتابه الذي حمل عنوان «الـ١٠٠ سنة القادمة.. التوقعات للقرن الـ ٢١» ليقرر أن ذلك هو شكل النفوذ التركي المستقبلي، لكن التركيز عليها الآن يعطي رسائل مباشرة عن التطلعات التركية تجاه الشرق الأوسط وأفريقيا، خاصة وأنها تتشابك مع مفهوم جديد يحاول الأتراك فرضه على الساحة تحت مسمى العثمانية الجديدة.
والعثمانية الجديدة تعني عودة النفوذ التركي للمناطق التي سيطر عليها العثمانيون قبل انهيار دولتهم مطلع القرن العشرين، لذ تحاول أنقرة ترسيخ هذا المفهوم خصوصا لدى المسلمين منهم، عبر تقديم نفسها على أنها البديل التقليدي للاستعمار الغربي، وبحكم أن الجولة الفائتة كانت لصالح أوروبا التي قسمت أملاك رجل أوروبا المريض، وحان الدور ليعود المريض إلى أملاكه القديمة، وكأن شعوب هذه المنطقة لا يحق لهم الدفاع عن سيادتهم الوطنية أمام الأطماع الأوروبية سواء ارتدت لباس التحرر الأوروبي أو الإسلام العثماني!.
“ذئب في زي حمل”
هكذا يمكن تصوير المشروع التركي في أفريقيا، فخلال العشرين عاما الأخيرة بدأت أنقرة فتح جبهات متعددة للتواصل مع الأفارقة، تبدأ بمغازلة العاطفة الدينية، وتتلون حسب البيئة التي تعمل فيها، فمرة يكون الحديث عن مقاومة الإمبريالية الأوروبية، وأخرى يكون إنسانيا يلعب فيه المشروع التركي دور الراعي الأمين عبر المساعدات الإنسانية والطبية، ليكون الهدف في النهاية؛ هو السيطرة الاقتصادية والعسكرية على بلدان هشة تعاني الفقر، وتمزقها العصبية العرقية والحروب الأهلية.
تركنة أفريقيا
بعيدا عن التواجد الاقتصادي والعسكري المعروف للجميع، تلعب السياسة الناعمة لتركيا دورًا بالغ الخطورة في أفريقيا، حيث تسعى لتكوين نخبة أفريقية تؤمن بالمشروع التركي، وتدافع عنه، حتى أنه قبل عدة سنوات كان من يتحدثون التركية في أفريقيا الوسطى، وأفريقيا جنوب الصحراء، وغرب أفريقيا يمكن عدهم على الأصابع، ليتحول الأمر وكأنه غزو منظم، باتت من خلاله الجمعيات التركية تمتلك 333 مدرسة موزعين على 43 دولة أفريقية، خاصة في “تشاد والغابون وغامبيا وغينيا ومالي وموريتانيا والنيجر والسنغال وسيراليون والسودان وتونس”.
لا يتوقف الأمر عند حد المدارس فالأذرع التركية تمشي خط استراتيجي يهدف لـ “تركنة” الأفارقة عبر تنشئة جيل من النشطاء الإسلاميين الذين يتعلمون في الجامعات التركية، حيث تقدم وزارة التعليم التركية حوالي 5500 منحة مخصصة للأفارقة سنويا تتكفل فيها الحكومة التركية بكافة المصاريف الخاصة بالجامعة والمكتبات وتذاكر الطيران ذهابا وإيابا بالإضافة إلى المسكن والمأكل والمواصلات.
تنشئة نخبة إفريقية موالية
وقبل الانخراط في التعليم التركي تدعم أنقرة الحاصلين على المنح من خلال تغطية صحية جيدة لمدة عام كامل لأجل دراسة اللغة التركية بأحد الجامعات، كما أنها فتحت مراكز بحثية متخصصة بالجامعات الحكومية لدراسة الشأن الأفريقى، أبرزها “مركز الدراسات الإفريقية بجامعة أنقرة، ومركز البحوث الجامعية لمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا بجامعة قادر هاس، بالإضافة إلى تقديم الجامعات التركية برامج دراسات عليا فى الدراسات الإفريقية”.
لا يقف الأمر عند المنح التعليمة فالأمر يمتد أيضا إلى الدخول للمناطق الفقيرة في القارة السمراء عبر مؤسسات الإغاثة التركية وفي مقدمتها الهلال الأحمر التركي، ووقف الديانة التركي واتحاد الجمعيات الإنسانية التركية IDDEF.
تقول الأرقام إن مساعدات أنقرة لدول إفريقيا جنوب الصحراء وحدها، كانت 52 مليون دولار في 2008، إضافة لعدد المشاريع الإنمائية التي وصل إلى 113 مشروعًا فى 37 دولة إفريقية عام 201، كما أن القارة السمراء تستحوذ على 33.7% من إجمالى مساعدات وكالة التنمية والتعاون الدولى التركية.
تمويل الإرهاب في إفريقيا
الغريب في الأمر غالبية القائمين على هذه الأعمال الخيرية متهمون بتمويل بعض التنظيمات الإرهابية، خصوصا مؤسسة الهدى التركية، وأيضا ياسين القاضى المتهم من قبل وزارة الخزانة الأمريكية بتمويل تنظيم القاعدة.
في الشرق الأفريقي تبدو الخطة التركية مغايرة فالمسوق الرئيسي للمشروع التركي هو الأوبئة والمجاعات فعلى الرغم من وجود انتكاسة في القطاع الطبي التركي بسبب جائحة كورونا، تقول الأرقام إن أكثر من ٢٨٠ ألف أفريقي حصلوا خدمات طبية من وزارة الصحة التركية، كما أن أنقرة استقدمت أكثر من ألف مريض أفريقي للعلاج غالبيتهم من الصومال والسودان.
فقراء على المقاس التركي
المثير للاهتمام في التوجه التركي بأفريقيا أنه لا يقدم خدماته عبثا للمحتاجين فالمحتاجين في مناطق الصراع الغنية بالنفط والمعادن، او القريبة من طرق الملاحة الدولية، عادة هم هدف المؤسسات التركية كما هو الحال في السودان الصومال اللذان يحتضنان عددا من المستشفيات التركية، حتى أن أكبر مستشفى في مقديشو تركية، إضافة لمستشفى جوبا التعليمي في جنوب السودان، ومستشفى البلاك ليون في أديس أبابا، ومستشفى نيالا السودانية.
الرئيس التركي وقف أمام الحضور في القمة الثالثة للزعماء الدينيين بأفريقيا، والتي عقدت في إسطنبول ليقول إن الغرب لا يريد لأفريقيا الإزدهار بينما تركيا تريد أن تمد لها الصداقة والإخوة، في الصنف من العبارة كان الرئيس التركي صادقا، لكن نصفه الثاني كان أدهى وأمر.
أردوغان في هذا الخطاب الشهير كان يمارس خطة حكومته المحكمة لمداعبة المشاعر الدينية للمسلمين في أفريقيا، حيث تنشط مؤسساته الدعوية التي تتبنى فكر ومشروع الإخوان المسلمين، في عدد من الدول، الغريب أن حضورها الأقوى في الدول التي تعاني من الإرهاب مثل ” نيجيريا ومالي والنيجر والسنغال”.
من هذا المنطلق تشير بعض الدراسات إلى أنقرة بدأت في تغيير رؤيتها في أفريقيا، منذ العام 2006 حين استضافت أنقرة مؤتمر رجال الدين الأفارقة، ويكمن التغيير في صبغ الحضور التركي بطابع ديني إسلاموي ليداعب مشاعر الفقراء المسلمين في البلدان الأفريقية.
دراما العثمانية الجديدة
الخطة لا تقف عند الحالمين بعودة النفوذ الإسلامي القديم الذي هيمن على العالم مئات السنين، لكنه يمتد للمتطلعين لحياة الترف الأوروبي، ففي إثيوبيا بات الأعمال الدرامية التركية المترجمة للأمهرية على سبيل المثال حاضرة بقوة، تقدم الأعمال الرومانسية الخيالية البعيدة كل البعد عن المجتمع التركي الغارق في مشكلات اجتماعية، حتى أن صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية اعتبرت ذلك في تقرير لها نشر مؤخرا مركز قوة جديد لأنقرة في القرن الأفريقي.
لا تقتصر الدراما التركية على المتحدثين باللغة الأمهرية، فالنصيب الأكبر من الخطة التركية موجه للعرب والمسلمين خصوصا الأعمال التركية التي تروج لتاريخ الأتراك المسلمين سواء العثمانيين أو السلاجقة، حيث ترتفع معدلات مشاهدات أعمال الدراما التاريخية التركية في كل من مصر وتونس والجزائر، وليبيا بشكل مليوني، الغريب أن هذه المسلسلات لا تؤرخ للماضي التركي بقدر ما تروج للمشروع العثماني الجديد في قالب درامي تاريخي.
للأسف يرى الأتراك في القارة السمراء ما لا يراه الأفارقة أنفسهم، فتركيا التي تستورد 95% من الطاقة تطمع في أن يكون لها في مناجم أفريقيا وآبار بترولها نصيب، عبر مزاحمة القوى الأجنبية التي تسيطر على هذه الموارد، لذا تقدم نفسها على أنها الحليف الأقرب مرة بحكم الدين وأخرى بحكم الجغرافيا، إضافة لفتح أسواق جديدة لمنتجاتها التي بات لها منافسين كثر في المنطقة العربية.
بعد الإطلاع على المقال يمكنك متابعة مركز العرب على فسيبوك وتويتر وشاهد قناتنا على يوتيوب
تعليق واحد