رؤى

رامي زُهدي يكتب .. «عودة واشنطن إلى السودان عبر بوابة التحالف الإقليمي»

الكاتب خبير الشؤون الإفريقية – نائب رئيس مركز العرب للأبحاث والدراسات الإستراتيجية

من جديد، تعود العاصمة السودانية الخرطوم إلى واجهة الأحداث الدولية، ولكن هذه المرة ليست وجهة واشنطن منفردة، بل ضمن تحالف إقليمي رباعي يعكس رؤية أمريكية أكثر براجماتية وتعقيدًا تجاه الإقليم. هذه العودة ليست نتاج تطور مفاجئ، بل تعبير عن إعادة تموضع استراتيجي تتقاطع فيه مصالح كبرى حول البحر الأحمر، وتُوظف فيه الأدوات الناعمة والخشنة معًا: العقوبات والحوافز، الدعم الإنساني والدبلوماسية المتعددة الأطراف.

الولايات المتحدة لا تتحرك وحدها، بل من داخل منظومة رباعية تضم السعودية، الإمارات، المملكة المتحدة، وأمريكا. هذا التشكيل الإقليمي والدولي يُعد نموذجًا لـ”الدبلوماسية الجماعية”، التي تتسم بالمرونة وتقلل من كلفة الانخراط المباشر. بل هو أيضًا غطاء شرعي للتدخل غير العسكري، يوفر الشرعية ويمنع التصادم العلني مع أطراف الصراع المحلي أو مع الخصوم الجيوسياسيين كروسيا والصين وإيران.

ويمثل السودان اليوم نقطة تماس استراتيجية في معادلات الأمن البحري والطاقة والهجرة غير النظامية، لذلك لم يعد شأنًا داخليًا، بل ميدانًا مفتوحًا لتقاطع المصالح.

بينما تحمل عودة واشنطن إلى السودان دوافع استراتيجية مُركبة،فالولايات المتحدة لا تعود إلى السودان عبثًا، بل تحت ضغط أربعة محددات رئيسية، بداية من السعي نحو كبح التمدد الروس،فمنذ عام 2017، بدأت روسيا تتحرك لخلق موطئ قدم دائم على الساحل السوداني، خصوصًا في بورتسودان، وهو ما توج بتوقيع اتفاق مبدئي لإنشاء قاعدة بحرية عام 2020. وعلى الرغم من تجميد الاتفاق لاحقًا، فإن واشنطن تعتبر أي وجود روسي عسكري في البحر الأحمر تهديدًا مباشرًا لمصالحها. أضف إلى ذلك نشاط مجموعة “فاجنر” في مناطق الذهب السودانية، والذي استُبدل مؤخرًا بما يسمى “الفيلق الروسي في إفريقيا”، وهو تطور تعيه واشنطن جيدًا.

ثم احتواء النفوذ الصيني، فالصين تُعد الشريك التجاري الأكبر للسودان منذ أوائل الألفية، وتستثمر بشكل واسع في البنية التحتية والطاقة. ومبادرة “الحزام والطريق” الصينية تنسج شبكتها عبر الموانئ والطرق وخطوط السكك الحديدية، ما يجعل السودان ركيزة محتملة لهذا المشروع، وبالتالي يشكل تراجعًا أمريكيًا مستمرًا ما لم تتم إعادة التوازن.

بينما تشير أرقام التجارة بين الصين والسودان إلى أكثر من 6 مليارات دولار سنويًا قبل اندلاع الحرب، وقد زادت الصين من وارداتها من الذهب السوداني بعد 2019، وهو ما يمثل أداة ضغط اقتصادي وسياسي مزدوج.

كذلك، تحجيم النفوذ الإيراني،فإيران تعود بهدوء إلى المسرح السوداني بعد فترة من البرود. تقارير متقاطعة تحدثت عن إمداد طهران للجيش السوداني بطائرات مسيرة من طراز “مهاجر-6″، وأخرى عبر وسطاء. هذا التحرك يتقاطع مع رغبة إيران في استعادة نفوذها القديم في البحر الأحمر، وهو ما دفع واشنطن لتشديد رقابتها على خطوط الإمداد والدعم العسكري غير التقليدي.

إضافة. الي الرغبة في تأمين البحر الأحم، في وقت يمر عبر البحر الأحمر نحو 12% من التجارة العالمية وأكثر من 4.8 مليون برميل نفط يوميًا. وأي تهديد لمضيق باب المندب أو موانئ السودان يمكن أن يُحدث ارتباكًا استراتيجيًا يطال قناة السويس والخليج العربي. لذلك، فإن واشنطن تنظر إلى السودان باعتباره ركيزة من ركائز الأمن البحري العالمي، وليس مجرد نقطة نزاع إقليمي.

وتعتمد الإدارة الأمريكية في مقاربتها للسودان على مزيج محسوب من الضغط والتحفيز، بما يشبه ما يُعرف في الدراسات الاستراتيجية بـ”النهج المرن متعدد المسارات”، ويتضمن أدوات الضغط، مثل فرض عقوبات على قادة من الجيش والدعم السريع، ووقف المساعدات التنموية والمخصصات الأمريكية للسودان من صندوق الدعم الانتقالي.

وكذلك استخدام أدوات “الدبلوماسية الموازية”، لا سيما عبر الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، لخلق بيئة تفاوضية ضاغطة.

وكذلك استخدام أدوات التحفيز، مثل وعد بإعادة دمج السودان في الاقتصاد العالمي بعد رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2020.

وبرامج إغاثية وإنسانية بقيمة تجاوزت 500 مليون دولار في السنوات الثلاث الأخيرة.

وأيضا التلويح بمشروعات إعادة إعمار شاملة، خاصة في شرق السودان، كمحفز سياسي واقتصادي للنخب المحلية.

تلعب الرباعية الدولية دور “الوسيط المتعدد” في الأزمة السودانية، لكن هذا الدور يواجه تحديات هيكلية. ويمكن تفصيل أدوار الرباعية على النحو التالي، السعودية والتي ترعى منصة “جدة” للحوار، وتستضيف جولات التفاوض، وتوفر غطاءً استخباراتيًا ولوجستيًا، ثم الإمارات والتي تتعامل مع الواقع عبر علاقات قديمة مع الدعم السريع، وتسعى حاليًا للعب دور ميسّر محايد، والولايات المتحدة التي ترسم الإطار العام وتضغط سياسيًا من خلف الستار، وكذلك بريطانيا والتي تقدم دعمًا في المحافل الدولية، خاصة مجلس الأمن وبرامج الإغاثة عبر منظومات الأمم المتحدة.

غير أن الرباعية تواجه عقبة رئيسية، وهي أن أطراف الصراع السوداني لم تعد تُحرّكها الإرادة السياسية فحسب، بل تُسيطر عليها تحالفات اقتصادية عسكرية إقليمية متشابكة، لا تملك الرباعية نفوذًا مباشرًا عليها، ما يجعل قدرتها على فرض وقف دائم لإطلاق النار محدودة.

وترى واشنطن البرهان وحميدتي بمنظور متابين يتطور حسب تطور الأحداث، فالفريق أول عبد الفتاح البرهان ، تراه واشنطن “القناة الشرعية”، كونه على رأس المؤسسة العسكرية والدولة. ولكنها لا تراه رجل المرحلة المقبلة. هو شريك اضطراري، لا أكثر. هدف واشنطن منه: الحفاظ على توازن الدولة حتى تنضج التسوية السياسية.

بينما، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، فكان يُنظر إليه كرقم صاعد يمكن المراهنة عليه. أما الآن، فباتت واشنطن تتعامل معه كقوة أمر واقع لا يمكن تجاوزها. لكنها في الوقت ذاته تُحمّله مسؤولية انتهاكات ميدانية جسيمة، وتُفضل تحجيمه عبر اتفاق سياسي لا يُقصيه تمامًا، لكنه لا يُمكّنه من السلطة المركزية.

الخيار المفضل أمريكيًا: تسوية ثلاثية الأضلاع، تشمل البرهان بشكل مؤقت، وحميدتي بمخرج تفاوضي يحفظ ماء الوجه او يوفر له خروج آمن هو وداعميه، مع بناء مسار مدني حقيقي يضمن استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا على المدى الطويل.

في النهاية، السودان ليس مجرد “أزمة” بل ملف أمن قومي أمريكي، فالولايات المتحدة تنظر إلى السودان اليوم كأحد ملفات أمنها القومي الممتدة. فالسودان يختزل تقاطعات: نفوذ الصين، تمدد روسيا، عودة إيران، سباق الموانئ، وتهديدات البحر الأحمر. وهو في الوقت ذاته، نقطة ارتكاز لشرق إفريقيا، ومنصة ضغط على القرن الإفريقي، ومفتاح لتوازنات إقليمية تمتد من ليبيا إلى اليمن.

وبالتالي، فإن تحركات واشنطن نحو الخرطوم ليست مجرد “عودة”، بل إعادة تموضع كامل ضمن تحالف دولي تراه أكثر أمانًا وفاعلية، وتحت مظلة الرباعية التي لم تُنشأ فقط للتفاوض، بل لإعادة تشكيل السودان بما يتماشى مع المصالح الغربية الشاملة.

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى